الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يّس: 77- 81].الوجه الثاني: ترهيب المشركين بأنهم غير معجزين، أي: إن يشأ يهلككم إذا خالفتم أمره ويخلف قومًا خيرًا منكم، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: من الآية 38]، وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133].وقوله تعالى: {بِالْحقِّ} أي: بالحكمة المنزهة عن العبث كقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عِمْرَان: من الآية 191]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: من الآية 27]، وقوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقّ} [يونس: من الآية 5]، وذلك ليتفكر في خلقها ويستدل بها على وجود بارئها وقدرته ووحدته.ثم أخبر تعالى عن تخاصم المجرمين في المحشر وتبرئهم من بعضهم، بقوله سبحانه: {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا} أي: اجتمعوا لحسابه وقضائه يوم القيامة في براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدًا، أو برزوا من قبورهم، أي: ظهروا لذلك: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وهم الأتباع: {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} أي: على الرسل وهم قادتهم- توبيخًا لهم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي: تابعين، مهما أمرتمونا ائتمرنا: {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي: بعض الإغناء: {قَالُواْ} أي: المستكبرون: {لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} إحالة لضلالهم وإضلالهم، على مقامه سبحانه، أو لو هدانا باهتدائنا، ولكن زغنا فأزاغنا، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: من الآية 5]، {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أي: منجى ومهرب من العذاب. ونظير الآية قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: من الآية 31].واستظهر ابن كثير هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها لآية: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47].ولا يخفى أن الآية في هذه السورة تصدق بالتخاصم في الموقف وفي النار؛ لإفادتها أن ذلك أثر بروزهم، وهو صادق بما ذكرنا، فلا قرينة فيها؛ لكون ذلك في النار فقط، كما ادَّعاه. وربما كان قوله: {وَبَرَزُواْ} يدل للموقف بمعناه المتقدم. ثم إن هذا التخاصم يجوز أن يكون متعدد المواطن لظاهر قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} وقوله: {في النَّارِ} ويجوز أن يكون مرة واحدة. والمراد بـ {النار} العذاب. ووقوفهم عند ربهم، واليأس محيط بهم، وجهنم ترقبهم، عذاب وأي عذاب!. اهـ.
.قال ابن عاشور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}.استئناف بياني ناشىء عن جملة {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} فإن هلاك فئة كاملة شديدة القوة والمرة أمر عجيب يثير في النفوس السؤال: كيف تهلك فئة مثل هؤلاء؟؟ فيجاب بأن الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمتها قادر على إهلاك ما هو دونها، فمبدأ الاستئناف هو قوله: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد}.وموقع جملة {ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق} موقع التعليل لجملة الاستئناف، قدم عليها كما تجعل النتيجة مقدمة في الخطابة والجِدال على دليلها.وقد بيناه في كتاب أصول الخطابة.ومناسبة موقع هذا الاستئناف ما سبقه من تفرق الرماد في يوم عاصف.والخطاب في {ألم تر} لكل من يصلح للخطاب غير معيّن، وكل مَن يظن به التساؤل عن إمكان إهلاك المشركين.والرؤية: مستعملة في العلم الناشىء عن النظر والتأمل، لأن السماوات والأرض مشاهدة لكل ناظر، وأما كونها مخلوقة لله فمحتاج إلى أقل تأمل لسهولة الانتقال من المشاهدة إلى العلم، وأما كون ذلك ملتبسًا بالحق فمحتاج إلى تأمل عميق.فلمّا كان أصل ذلك كله رؤية المخلوقات المذكورة علق الاستدلال على الرؤية، كقوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} [سورة إبراهيم: 101].والحق هنا: الحكمة، أي ضد العبث، بدليل مقابلته به في قوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} [سورة الدخان: 38، 39].وقرأه حمزة، والكسائي وخلَف {خلق السموات والأرض} بصيغة اسم الفاعل مضاف إلى {السموات} وبخفض {والأرض}.والخطاب في {يذهبكم} لجماعة من جملتهم المخاطب بـ {ألم تر}.والمقصود: التعريض بالمشركين خاصة، تأكيدًا لوعيدهم الذي اقتضاه قوله: {لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم}، أي إن شاء أعدم الناس كلهم وخلق ناسًا آخرين.وقد جيء في الاستدلال على عظيم القدرة بالحكم الأعم إدماجًا للتعليم بالوعيد وإظهارًا لعظيم القدرة.وفيه إيماء إلى أنه يذهب الجبابرة المعاندين ويأتي في مكانهم في سيادة الأرض بالمؤمنين ليمكنهم من الأرض.وجملة {وما ذلك على الله بعزيز} عطف على جملة {إن يشأ يذهبكم} مؤكد لمضمونها، وإنما سلك بهذا التأكيد ملك العطف لما فيه من المغايرة للمؤكد في الجملة بأنه يفيد أن هذا المَشيء سهل عليه هين، كقوله: {وهو الذي يبدأ لخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [سورة الروم: 27].والعزيز على أحدٍ: المتعاصي عليه الممتنع بقوته وأنصاره.{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.عطف على جملة {إن يشأ يذهبكم} [إبراهيم: 20] باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب، وفي الكلام محذوف، إذ التقدير: فأذْهَبهم وبرزوا لله جميعًا، أي يوم القيامة.وكان مقتضى الظاهر أن يقول: ويبرزون لله، فعدل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع، مثل قوله تعالى: {أتى أمر الله} [سورة النحل: 1].والبروز: الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية.والمعنى: حشروا من القبور.و{جميعًا} تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيفٍ.وقد جيء في هذه الآية بوصف حَال الفرق يوم القيامة، ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم، ومجادلة الجميع للشيطان، وكون المؤمنين في شغل عن ذلك بنُزل الكرامة.والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات.فالمقصود: التحذير مما يفضي إلى سوء المصير.واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل {برزوا} إلى المجرور.يقال: برز لفلان، إذا ظهر له، أي حضر بين يديه، كما يقال: ظهر له.والضعفاء: عوامّ الناس والأتباع.والذين استكبروا: السادة، لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة.والسين والتاء للمبالغة في الكبر.والتَبع: اسم جمع التابع مثل الخَدَم والخَوَل، والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم.وموجب تقديم المسند إليه على المسند في {فهل أنتم مغنون عنا} أن المستفهم عنه كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغَناء عنهم، لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم.كما تدلّ عليه حكاية قول المستكبرين {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}، فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا، فتعيّن أن الاستفهام مستعمل في التورّك والتوبيخ والتبكيت، أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا.فإيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي، وبينه ما في نظيره من سورة غافر [47، 48] {وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعًا فهل أنتم مغنون عنا نصيبًا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}.و{مِنْ} في قوله: {من عذاب الله} بدلية، أي غناء بدلًا عن عذاب الله.و{مِنْ} في قوله: {من شيء} مزيدة لوقوع مدخولها في سياق الاستفهام بحرف هل.و{شيء} في معنى المصدر، وحقه النصب على أنه مفعول مطلق فوقع جرّه بحرف الجر الزائد.والمعنى: هل تغنون عنا شيئًا.وجواب المستكبرين اعتذار عن تغريرهم بأنهم ما قصدوا به توريط أتباعهم كيف وقد ورّطوا أنفسهم أيضًا، أي لو كنا نافعين لنفعنا أنفسنا.وهذا الجواب جار على معنى الاستفهام التوبيخي العتابي إذ لم يجيبوهم بأنا لا نملك لكم غناء ولكن ابتدأوا بالاعتذار عما صدر منهم نحوهم في الدنيا علمًا بأن الضعفاء عالمون بأنهم لا يملكون لهم غناء من العذاب.وجملة {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} من كلام الذين استكبروا.وهي مستأنفة تبيين عن سؤال من الضعفاء يستفتون المستكبرين أيصبرون أم يجزعون تطلبًا للخلاص من العذاب، فأرادوا تأييسهم من ذلك يقولون: لا يفيدنا جزع ولا صبر، فلا نجاة من العذاب.فضمير المتكلم المشارك شامل للمتكلمين والمجابين، جمعوا أنفسهم إتمامًا للاعتذار عن توريطهم.والجزع: حزن مشوب باضطراب، والصبر تقدم.وجملة {ما لنا من محيص} واقعة موقع التعليل لمعنى الاستواء، أي حيث لا محيص ولا نجاة فسواء الجَزع والصبر.والمحيص: مصدر ميمي كالمغيب والمشيب وهو النجاة.يقال: حاص عنه، أي نجا منه.ويجوز أن يكون اسمَ مكان من حاص أيضًا، أي ما لنا ملجأ ومكان نَنْجو فيه. اهـ..قال الشعراوي: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)}.وسبحانه يُعلمنا هنا أنه خلق السماوات والأرض بميزان الحقِّ؛ فلا تأتي السماء وتنطبق على الأرض، فسبحانه القائل: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ...} [الحج: 65].وأنت كلما سِرْتَ وجدتَ الشمس من فوقك، وهي مرفوعة بنظام هندسيّ دقيق.وهكذا أراد الحق سبحانه أن يُؤكِّد قضية كونية مُحسَّة مشهودة؛ وبدأ بقوله: {أَلَمْ تَرَ...} [إبراهيم: 19].رغم أنه لا يوجد مع العَيْن أيْن؛ ذلك أن الشمس واضحة أمام كُلِّ البشر، وهكذا نجد أن معنى {أَلَمْ تَرَ} هنا تكون بمعنى ألم تعلم.وجاء سبحانه ب {أَلَمْ تَرَ} هنا ليدلّنا على أن ما يُعلمنا الله به من حَقٍّ أصدق مما تُعلِمنا به العين؛ فإذَا قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} فاعلم أنه علم موثوق به.وحين يلفتنا الحق سبحانه هنا إلى رؤية السماوات والأرض؛ فكان لابد لنا أن نعلم أنها لم تَكُنْ لِتُوجَد إلا بخَلْق الله لها؛ وهو الذي أخبرنا أنها من خَلْقه؛ ولم يدّعَها أحدٌ لنفسه؛ وبذلك تثبت له قضية خَلْقها إلى أنْ يقولَ آخر أنه خلقها؛ ولم يَقُلْ لنا أحدٌ ذلك أبدًا.وسبق أن قال سبحانه: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس...} [غافر: 57].والبشر كما نعلم لا يعيش فرد منهم مِثْلما تعيش السماء؛ فالفرد يموت ويُولَد غيره؛ وكُلُّ البشر يأتون ويذهبون، والشمس باقية، وكذلك الأرض.ومن عجيب الخَلْق الرحماني أن الله خلق كُلّ ذلك تسخيرًا لأمر الإنسان؛ فلا يشذّ كائن من تلك المُسخرات عن أمر الإنسان. وما طُلِب منك أيُّها الإنسان تكليفًا مُخيَّر فيه إنْ شئتَ آمنت، وإنْ شئْتَ كَفرتَ؛ وإنْ شئتَ أطعتَ، وإن شئتَ عصيتَ.ولكن المخلوق المُسخَّر لخدمتك ليست له هذه المشيئة. وهو سبحانه الحق القائل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].وقد أعلمنا هذا القولُ الكريم بأن الرحمانية سبقتْ لنا نحن البشر من قبل خَلْقنا، وأقدمتنا رحمانية الله على وجود مُهيَّأ لنا.ومن العجيب أن الكونَ المخلوق لنا استبقاءً لحياتنا واستبقاءً لنوعنا يتركز في أشياء لا دَخْل لنا فيها، ولا تتغير أبدًا؛ وهي الأشياء العليا كالشمس والقمر والأرض.وهناك أشياء أخرى يكون التغيير فيها على نوعين: قسم يتغير ويأتي بدلًا منه شيء جديد، كالنبات الذي يذهب ويصير حصيدًا، وكذلك الحيوانات التي نأكلها أو التي تموت.وهناك خَلْق يتغير مع إبقاء عناصره، وإنْ تغيّرتْ مادته، كالجمادات التي نراها- الجبال والأرض وعناصرها- ونكتشف منها كُلَّ يوم جديدًا.إذن: فالمخلوقات التي استقبلتْ الوجود الإنساني نوعان: نوع لا دَخْل للأغيار فيها؛ ونوع آخر فيه دَخْل للأغيار مع بقاء مادتها وهي الجمادات؛ ونوع تتغير أنواعه وأجناسه.كُلُّ هذه الأشياء تدلُّنا على أن الحقَّ سبحانه وتعالى له صِفَتان.صفة القدرة والقهر؛ وهو سبحانه يقهر ما يشاء على ما يشاء؛ ولا يتغير.وصفة الاختيار التي أوجدها في الإنسان.وأثبتت صفة القدرة التي سخَّر بها سبحانه الأشياء لخدمة الإنسان مُطْلق سلطانه سبحانه على كُلِّ ما خلق؛ فلا شيءَ يخرج عن مراده أبدًا.وأراد سبحانه بصفة الاختيار التي وهبها للإنسان أنْ يأتيه عبده الإنسان محبًا متبعًا لتكاليفه الإيمانية، فالذي يطيع الله وهو قادر على أنْ يعصيه إنما يدلُّ بذلك على أنه مُحِبٌّ لله؛ ويُثبِت له صفة المحبوبية.وهنا يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق...} [إبراهيم: 19].ولنا أن نلحظ أن كلمة {بالحق} وردتْ في مواقع كثيرة من القرآن الكريم.وعلى سبيل المثال، نجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق...} [الحجر: 85].وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38].وهذا يدل على أن السماوات والأرض مخلوقة على هيئة ثابتة، وقد جعل ذلك مدارسَ الفلسفة تستقبل تلك القضية استقبالين؛ استقبالَ مَنْ يريد أنْ يؤمن؛ واستقبال مَنْ يريد أنْ يكفرَ. وانقسم مَنْ أرادوا الكفر إلى فريقين.الفريق الأول: أخذ من ثبات قوانين الشمس والقمر والأرض دليلًا على أنه لايوجد خالق لهذا الكون، وقالوا: لو أن هناك خالقًا له لغيّر من هيئة السماوات والأرض، ولكن كُل من تلك الكواكب تدير نفسها بآلية ذاتية مُحْكمة.والفريق الثاني مِمَّن أرادوا الكفر قال: إن الشذوذ في الكون ووجود خَلَل وعيوب خَلقية في بعض من المخلوقات والأنواع؛ دليلٌ على أنه لا يوجد إله. فكيف يخلق إلهٌ مخلوقًا أعمى؛ وآخر أعرجَ؛ وثالثًا بعين واحدة؟
|